كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الصفة الثالثة المذكورة في قوله تعالى: {والذين هم} أي: بضمائرهم التي تتبعها ظواهرهم {عن اللغو} قال ابن عباس: عن الشرك {معرضون} أي: تاركون، وقال الحسن: عن المعاصي، وقال الزجاج: هو كل باطل ولهو وما لا يحمد من القول والفعل، وقيل: هو كل ما لا يعني الشخص من قول أو فعل وهو ما يستحق أنّ يسقط ويلغى، فمدحهم الله تعالى بأنهم معرضون عن هذا اللغو والإعراض عنه هو بأنّ لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال تعالى: {وإذا مرّوا باللغو مرّوا كرامًا} أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.
الصفة الرابعة المذكورة في قوله تعالى: {والذين هم للزكاة فاعلون} أي: مؤدون.
تنبيه:
الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى فالعين هو القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى المستحق والمعنى فعل المزكي الذي هو التزكية، وهو المراد هنا؛ لأنه ما من مصدر إلا ويعبر عن معناه بالفعل، ويقال لمحدثه: فاعل، تقول للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل، وللمزكي: فاعل التزكية، ويجوز أنّ يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء، وقيل: الزكاة هنا هي العمل الصالح؛ لأنّ هذه السورة مكية وإنما فرضت الزكاة بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة.
قال البقاعي: والظاهر أنّ التي فرضت بالمدينة هي ذات النصب، وأنّ أصل الزكاة كان واجبًا بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام]. انتهى.
الصفة الخامسة المذكورة في قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم} في الجماع ومقدّماته {حافظون} أي: دائمًا لا يتبعونها شهوتها، والفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة، وحفظه التعفف عن الحرام، ثم استثنى من ذلك قوله تعالى: {إلا على أزواجهم} اللاتي استحقوا أبضاعهنّ بعقد النكاح، ولعلوّ الذكر عبر بعلى ونظيره كان زياد على البصرة أي: واليًا عليها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان، ومن ثم سميت المرأة فراشًا، وقيل: على بمعنى من، وجرى على ذلك البغوي {أو ما ملكت إيمانهم} رقابه من الإماء. فإن قيل: هلا قال تعالى: أو من ملكت؟
أجيب: بأنه إنما عبر بما لقرب الإماء مما لا يعقل لنقصهن عن الحرائر الناقصات عن الذكر ولأنه اجتمع فيها وصفان: أحدهما: الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل والأخرى: كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع، قال البغوي: والآية في الرجال خاصة؛ لأنّ المرأة لا يجوز لها أنّ تستمتع بفرج مملوكها {فإنهم غير ملومين} على ذلك إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي، وفي حال الحيض أو النفاس أو نحو ذلك كوطء الأمة قبل الاستبراء، فإنه حرام ومن فعله فإنه ملوم.
{فمن ابتغى} أي: طلب متعديًا {وراء ذلك} العظيم المنفعة الذي وقع استثناؤه بزنا أو لواط أو استمناء بيد أو بهمية أو غيرها {فأولئك} المبعدون من الفلاح {هم العادون} أي: المبالغون في تعدّي الحدود، عن سعيد بن جبير قال: عذب الله تعالى أمّة كانوا يعبثون بمذاكيرهم، أي: في أيديهم، وقيل: يحشرون وأيديهم حبالى.
الصفة السادسة: المذكورة في قوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم} أي: في الفروج وغيرها سواء كانت بينهم وبين الله كالصلاة والصيام، أو بينهم وبين الخلق كالودائع والبضائع، أو في المعاني الباطنة كالإخلاص والصدق {وعهدهم راعون} أي: حافظون بالقيام والرعاية والإصلاح، والعهد ما عقده الشخص على نفسه فيما يقربه إلى ربه، ويقع أيضًا على ما أمر الله تعالى به كقوله تعالى: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا} [آل عمران].
تنبيه:
سمي الشىء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدًا، ومنه قوله تعالى: {إنّ الله يأمركم أنّ تؤدّوا الأمانات إلى أهلها} [النساء]. وقال تعالى: {وتخونوا أماناتكم} [الأنفال]. وإنما تؤدّى العيون لا المعاني ويخان المؤتمن عليه لا الأمانة في نفسها. وقرأ ابن كثير: لأمانتهم بغير ألف بين النون والتاء على الإفراد لا من الإلباس أو لأنها في الأصل مصدر، والباقون بالألف على الجمع.
الصفة السابعة المذكورة في قوله تعالى: {والذين هم على صلواتهم} التي وصفوا بالخشوع فيها {يحافظون} أي: يواظبون عليها ولا يتركون شيئًا من مفروضاتها ولا مسنوناتها يجتهدون في كمالاتها جهدهم، ويؤدّونها في أوقاتها.
فإن قيل: كيف كرّر الصلاة أولًا وآخرًا؟
أجيب: بأنهما ذكران مختلفان فليس بمكرر وصفوا أولًا بالخشوع في صلاتهم وآخر بالمحافظة عليها وذلك أنّ لا يسهوا عنها ويؤدوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها ويوطنوا أنفسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أنّ تتم به أوصافها، وأيضًا فقد وحدت أولًا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أيّ صلاة كانت وجمعت آخرًا على غير قراءة حمزة والكسائي، فإنّ غيرهما قرأ بالجمع، وأمّا هما فقرأا بالإفراد لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة وصلاة الجنازة والعيدين والكسوفين والاستسقاء، والوتر والضحى وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وغيرها من النوافل، ولما ذكر تعالى مجموع هذه الصفات العظيمة فخم جزاءهم فقال تعالى: {أولئك} أي: البالغون من الإحسان أعلى مكان {هم الوارثون} أي: المستحقون لهذا الوصف، فيرثون منازل أهل الجنة في الجنة روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» وقال مجاهد: لكل واحد منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فأمّا المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدم منزله الذي له في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ويبني منزله الذي له في النار. وقال بعض المفسرين: معنى الوراثة هو أنّ يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.
{الذين يرثون الفردوس} وهو أعلى الجنة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون عرش الرحمن، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» اللهمّ بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أنّ تجعلنا ووالدينا وأحبابنا من أهله {هم فيها خالدون} أي: لا يخرجون منها ولا يموتون وأنث الفردوس بقوله تعالى: {فيها}، على تأنيث الجنة، وهو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر، روي «أنّ الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الإذفر- وفي رواية: ولبنة من مسك مذرى- وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان»، وروي «أنّ الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث»، والمراد أنّ الله تعالى لم يكل ذلك إلى غيره من ملك من الملائكة، والجنة مخلوقة الآن؛ قال تعالى: {أعدت للمتقين} [آل عمران]. ولما أمر سبحانه وتعالى بالعبادات في هذه الآيات والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله تعالى عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعًا:
الأول: الاستدلال بتقليب الإنسان في أدوار الخلقة وأدوار الفطرة، وهي تسع مراتب.
الأولى: قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان} أي: آدم {من سلالة} هي من سللت الشيء من الشيء أي: استخرجته منه، وهو خلاصته، وقال ابن عباس: السلالة صفرة الماء، وقوله تعالى: {من طين} متعلق بـ سلالة، وقيل: المراد بالإنسان هذا النوع؛ والسلالة قال مجاهد: من بني آدم، وقال عكرمة: هو الماء يسيل من الظهر، والعرب تسمي النطفة سلالة، والولد سليلًا وسلالة؛ لأنهما مسلولان منه.
المرتبة الثانية: قوله تعالى: {ثم جعلناه} أي: نسله، فحذف المضاف {نطفة} أي: منيًا من الصلب والترائب بأنّ خلقناه منها {في قرار مكين} أي: مستقر حصين هو الرحم.
تنبيه:
مكين في الأصل صفة للمستقر في الرحم وصف به المحل للمبالغة كما عبّر عنه بالقرار.
المرتبة الثالثة: قوله تعالى: {ثم} أي: بعد تراخ في الزمان، وعلوّ في المرتبة والعظمة {خلقنا} أي: بما لنا من العظمة {النطفة} أي: البيضاء جدًا {علقة} حمراء دمًا غليظًا.
شديد الحمرة جامدًا غليظًا، المرتبة الرابعة: قوله تعالى: {فخلقنا} أي: بما لنا من القوة والقدرة العظيمة {العلقة مضغة} أي: قطعة لحم قدر ما يمضغ لا شكل فيها ولا تخطيط.
المرتبة الخامسة: قوله تعالى: {فخلقنا المضغة} أي: بتقليبها بما شئنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة {عظاما} من رأس ورجلين وما بينهما.
المرتبة السادسة: قوله تعالى: {فكسونا} بما لنا من قوة الاختراع تلك {العظام لحمًا} بما ولدنا منها ترجيعًا لحالها قبل كونها عظامًا فسترنا تلك العظام، وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب. وقرأ ابن عامر وأبو بكر: عظامًا، والعظام بفتح العين وإسكان الظاء من غير ألف على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع، والباقون بكسر العين وفتح الظاء وألف بعدها على الجمع؛ قال الجلال المحلي: وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى صيرنا.
المرتبة السابعة: قوله تعالى: {ثم أنشأناه} أي: هذا المحدث عنه بعظمتنا {خلقًا آخر} أي: خلقًا مباينًا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانًا، وكان جمادًا وناطقًا، وكان أبكم وسميعًا، وكان أصم وبصيرًا وكان أكمه وأودع ظاهره وباطنه بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطره وغرائب حكمه لا تدرك بوصف الواصف، ولا تبلغ بشرح الشارح، وثم لما بين الخلقين من التفاوت؛ قال الزمخشري: وقد احتج به أبو حنيفة رحمه الله فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده، فقال: يضمن البيضة ولا يرد الفرخ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة. اهـ. ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سببًا لتعظيم الخالق؛ قال تعالى: {فتبارك الله} أي: تنزه عن كل شائبة نقص وحاز جميع صفات الكمال، وأشار إلى جمال الإنسان بقوله تعالى: {أحسن الخالقين} أي: المقدرين، ومميز أحسن محذوف أي: خلقا. روي «عن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله: {خلقًا آخر} قال: فتبارك الله أحسن الخالقين» وروي أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هكذا فنزلت فقال عبد الله: إن كان محمد نبيًا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلى. فلحق بمكة كافرًا، ثم أسلم يوم الفتح، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب: فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هكذا أنزلت يا عمر» وكان عمر يقول: وافقني ربي في أربع: الصلاة خلف المقام، وضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهن أو ليبدلن الله خيرًا منكن فنزل قوله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن} [التحريم].
الآية، والرابع: قلت: فتبارك الله أحسن الخلقين، فقال: «هكذا نزل» قال العارفون: هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر والشقاوة لعبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه قيل: إنه مات كافرًا؛ قال الله تعالى: {يضل به كثيرًا} [البقرة].
ويهدي به كثيرًا، المرتبة الثامنة: قوله تعالى: {ثم إنكم بعد ذلك} أي: الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد في العمر في آجال متفاوتة ما بين طفل ورضيع ومحتلم شديد وشاب نشيط وكهل عظيم وشيخ هرم إلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير {لميتون} أي: لصائرون إلى الموت لا محالة، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت وهو ميت دون اسم الفاعل، وهو مائت، فإنه للحدوث لا للثبوت.
المرتبة التاسعة: قوله تعالى: {ثم إنكم يوم القيامة} أي: الذي تجمع فيه جميع الخلائق {تبعثون} للحساب والجزاء.